فصل: قال التستري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر، عن أبي هريرة {إن في هذا لبلاغًا لقوم عابدين} قال: في الصلوات الخمس شغلًا للعبادة.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية {لبلاغًا لقوم عابدين} قال: هي الصلوات الخمس في المسجد الحرام جماعة.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، عن محمد بن كعب {إن في هذا لبلاغًا لقوم عابدين} قال: الصلوات الخمس.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن رضي الله عنه {لقوم عابدين} قال: الذين يحافظون على الصلوات الخمس في الجماعة.
وأخرج عن قتادة رضي الله عنه {لقوم عابدين} قال: عاملين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} قال: من آمن تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن عوفي مما كان يصيب الأمم في عاجل الدنيا من العذاب؛ من المسخ والخسف والقذف.
وأخرج مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قيل يا رسول الله، ادع على المشركين. قال: إني لم أبعث لعانًا وإنما بعثت رحمة».
وأخرج أبو نعيم في الدلائل، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للمتقين».
وأخرج أحمد وأبو داود والطبراني، عن سلمان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيما رجل من أمتي سببته سبة في غضبي، أو لعنته لعنة، فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما تغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين، وأجعلها عليه صلاة يوم القيامة».
وأخرج البيهقي في الدلائل، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا رحمة مهداة».
وأخرج عبد بن حميد، عن عكرمة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله، ألا تلعن قريشًا بما أتوا إليك؟ فقال: «لم أبعث لعانًا إنما بعثت رحمة» يقول الله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)}.
قوله: {مِن بَعْدِ الذكر}: يجوزُ أَنْ يتعلًَّق بـ: {كَتْبنا}، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ {الزَّبُورِ} لأنَّه بمعنى المَزْبُور أي: المكتوب أي: المَزْبُور مِنْ بَعْدِ. ومفعولُ {كَتَبْنا} أنَّ وما في حَيِّزها أي: كَتَبْنا وِراثَةَ الصالحينِ للأرضِ أي: حَكَمْنا به.
{وما أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}.
قوله: {إِلاَّ رَحْمَةً}: يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولًا له أي: لأجلِ الرَّحْمة. ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على الحال مبالغةً في أَنْ جَعَلَه نفسَ الرحمة، وإمَا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا رحمةٍ أو بمعنى راحِم. وفي الحديث: «يا أيها الناسُ إنما أنا رحمةٌ مُهْداة».
قوله: {لِّلْعَالَمِينَ} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لـ: {رَحْمَةً} أي: كائنةً للعالمين. ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بـ: {أَرْسَلْناك} عند مَنْ يَرَى تَعَلُّقَ ما بعد إلاَّ بما قبلها جائزًا أو بمحذوفٍ عند مَنْ لا يَرَى ذلك. هذا إذا لم يُفَرَّغ الفعلُ لِما بعدها، أما إذا فُرِّغَ فيجوزُ نحو: ما مررتُ إلاَّ بزيدٍ، كذا قاله الشيخ هنا. وفيه نظرٌ من حيث إن هذا أيضًا مفرغ؛ لأنَّ المفرَّغَ عبارةٌ عمَا افتقر ما بعد إلاَّ لِما قبلها على جهةِ المعمولية له.
{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إلى أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)}.
قوله: {أَنَّمَا إلهكم}: أنّ وما في حَيِّزِها في محلِّ رفعٍ لقيامِه مَقامَ الفاعلِ؛ إذا التقديرُ: إنما يوحى إلى وَحْدانيةُ إلهكم. وقال الزمخشري: {إنَّما} لقَصْرٍ الحكمِ على شيءٍ أو لقَصْرِ الشيءِ على حكمٍ كقولِك: إنما زيدٌ قائم وإنما يقومُ زيدٌ. وقد اجتمع المثالان في هذه الآيةِ؛ لأنََّ {إِنَّمَا يوحى إلى} مع فاعلِه بمنزلةِ إنما يقومُ زيد، و{أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} بمنزلةِ إنَّما زيد قائم. وفائدةُ اجتماعِهما الدلالةُ على أنَّ الوَحْيَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقصورٌ على استئثارِ اللهِ بالوَحْدانية.
قال الشيخ: أمَا ما ذكره في {أنَّما} أنَّها لقَصْرِ ما ذَكَر، فهو مبنيٌّ على أن {أنَّما} للحصر، وقد قررنا أنها لا تكون للحصر وأنَّ ما مع أن كهي مع كأنَّ ومع لعلَّ. فكما أنها لا تفيد الحصر في التشبيه ولا الحصر في الترجي، فكذلك لا تفيده مع أن. وأما جَعْلُه {أنما} المفتوحةَ الهمزةِ مثلَ المكسورتِها تدلُّ على القَصْر فلا نعلم الخلاف إلاَّ في {إنما} بالكسر، وأما {أنما} بالفتح فحرفٌ مصدريٌّ، ينسَبِكُ منه مع ما بَعْدَه مصدرٌ، فالجملةُ بعدها ليسَتْ جملةً مستقلةً. ولو كانَتْ {أنما} دالةً على الحصر لزم أَنْ يُقال: إنه لم يُوْحَ إليه شيءٌ إلاَّ التوحيدُ، وذلك لا يَصِحُّ الحَصْرُ فيه، إذ قد أُوْحي له أشياءُ غيرُ التوحيد.
قلت: الحَصْرُ بحسب كلِّ مقامٍ على ما يناسِبُه؛ فقد يكون هذا المقامُ يقتضي الحصرَ في إيحاءِ الواحدنية لشيءٍ جرى من إنكارِ الكفارِ وحدانيتَه تعالى، وأنَّ اللهَ لم يُوْحِ إليه لها شيئًا. وهذا كما أجاب الناسُ عن هذا الإِشكالِ الذي ذكره الشيخُ في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ} [الرعد: 7] {إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ} [الكهف: 110] {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد 36] إلى غير ذلك. وما من قوله: {إِنَّمَا يوحى} يجوز فيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ كافةً وقد تقدَّم. والثاني: أن تكونَ موصولةً كهي في قوله: {إِنَّمَا صَنَعُواْ} [طه: 69] ويكون الخبرُ هو الجملةَ مِنْ قوله: {أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} تقديرُه: إن الذي يوحى إلى هو هذا الحكمُ.
قوله: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} استفهامٌ معناه الأمرُ بمعنى أَسْلِموا، كقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] أي: انتهوا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)}.
{الذِّكْرِ} هنا هو التوراة، وكَتَبَ: أي أخبر وحَكَمَ، و{الصَّالِحُونَ} أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- أنَّ {الأرض} هم الذين يرثونها.
{وما أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}.
أمَا مَنْ أسلم فَبِكَ ينجون، وأمَا مَنْ كَفَرَ فلا نعذبهم ما دُمْتَ فيهم؛ فأنت رحمة مِنَّا على الخلائق أجميعن.
{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إلى أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)}.
واحدٌ في ذاته، واحدٌ في صفاته، واحدٌ في أفعاله، واحد بلا قسيم، واحد بلا شبيه، واحدٌ بلا شريك.
{فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} مخلصون في عقد التوحيد بالتبرِّي عن كلِّ غيرِ في حسبان صَلاَحِيَّتِهِ للألوهية؟. اهـ.

.قال التستري:

قوله: {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} (105) قال: أضافهم إلى نفسه وحلاهم بحلية الصلاح، معناه: لا يصلح إلا ما كان خالصًا لي، لا يكون لغيري فيه أثر، وهم الذين أصلحوا سريرتهم مع الله، وانقطعوا بالكلية عن جميع ما دونه.
قوله: {إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} (106) قال: لم يجعله بلاغًا لجميع عباده، بل خصه لقوم عابدين، وهم الذين عبدوا الله تعالى، وبذلوا له مهجهم، لا من أجل عوض، ولا من أجل الجنة، ولا من أجل النار، بل حبًا له وافتخارًا بما أهّلهم لعبادتهم إياهـ. والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.

.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
وأصح القولين في قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء 107 أنه على عمومه وفيه على هذا التقدير وجها:
أحدهما أن عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته أما أتباعه فنالوا به كرامة الدنيا والآخرة وأما أعداؤه فالمحاربون له عجل قتلهم وموتهم خير لهم من حياتهم لأن حياتهم زيادة لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة وهم قد كتب عليهم الشقاء فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر وأما المعاهدون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته وهم أقل شرا بذلك العهد من المحاربين له.
وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهلهم واحترامها وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث وغيره وأما الأمم النائية عنه فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض فأصاب كل العالمين النفع برسالته.
الوجه الثاني أنه رحمة لكل أحد لَكِن المؤمنون قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى والكفار ردوها فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة لهم لَكِن لم يقبلوها كما يقال هذا دواء لهذا المرض فإذا لم يستعمله المريض لم يخرج عن أن يكون دواء لذلك المرض.
ومما يحمد عليه ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق وكرائم الشيم فإن من نظر في أخلاقه وشيمه علم إنها خير أخلاق الخلق وأكرم شمائل الخلق فإنه كان أعلم الخلق وأعظمهم أمانة وأصدقهم حديثا وأحلمهم وأجودهم وأسخاهم وأشدهم احتمالا وأعظمهم عفوا ومغفرة وكان لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما.
كما روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما «أنه قال في صفة رسول الله في التوراة محمد عبدي ورسولي سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولَكِن يعفو ويصفح ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله وأفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا».
وأرحم الخلق وأرأفهم بهم وأعظم الخلق نفعا لهم في دينهم ودنياهم وأفصح خلق الله وأحسنهم تعبيرا عن المعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة الدالة على المراد وأصبرهم في مواطن الصبر وأصدقهم في مواطن اللقاء وأوفاهم بالعهد والذمة وأعظمهم مكافأة على الجميل بأضعافه وأشدهم تواضعا واعظمهم إيثارا على نفسه وأشد الخلق ذبا عن أصحابه وحماية لهم ودفاعا عنهم وأقوم الخلق بما يأمر به وأتركهم لما ينهى عنه وأوصل الخلق لرحمه فهو أحق بقول القائل:
برد على الأدنى ومرحمة ** وعلى الأعادي مارن جلد

قال على رضي الله عنه كان رسول الله أجود الناس صدرا وأصدقهم لهجة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله.
فقوله كان اجود الناس صدرا أراد به بر الصدر وكثرة خيره وأن الخير يتفجر منه تفجيرا وأنه منطو على كل خلق جميل وكل خير كما قال بعض أهل العلم ليس في الدنيا كلها محل كان أكثر خيرا من صدر رسول الله قد جمع الخير بحذافيره وأودع في صدره.
وقوله أصدق الناس لهجة هذا مما أقر له به أعداؤه المحاربون له ولم يجرب عليه أحد من أعدائه كذبة واحدة قط دع شهادة أوليائه كلهم له به فقد حاربه أهل الأرض بأنواع المحاربات مشركوهم وأهل الكتاب منهم وليس أحد منهم يوما من الدهر طعن فيه بكذبة واحدة صغيرة ولا كبيرة.
قال المسور بن مخرمة قلت لأبي جهل وكان خالي يا خال هل كنتم تتهمون محمدا بالكذب قبل أن يقول مقالته فقال والله يا ابن أختي لقد كان محمد وهو شاب يدعى فينا الأمين فلما وخطه الشيب لم يكن ليكذب قلت يا خال فلم لا تتبعونه فقال يا ابن أختي تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف فأطعموا وأطعمنا وسقوا وسقينا وأجاروا وأجرنا فلما تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي فمتى نأتيهم بهذه أو كما قال وقال تعالى يسليه ويهون عليه قول أعدائه: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولَكِن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين} [الأنعام 33-34] وقوله ألينهم عريكة يعني سهل لين قريب من الناس مجيب لدعوة من دعاه قاض لحاجة من استقضاه جابر لقلب من قصده لا يحرمه ولا يرده خائبا إذا أراد أصحابه منه أمرا وافقهم عليه وتابعهم فيه وإن عزم على أمر لم يستبد دونهم بل يشاورهم ويؤامرهم وكان يقبل من محسنهم ويعفو عن مسيئهم.
وقوله أكرمهم عشرة يعني أنه لم يكن يعاشر جليسا له إلا اتم عشرة وأحسنها وأكرمها فكان لا يعبس في وجهه ولا يغلظ له في مقاله ولا يطوي عنه بشره ولا يمسك عليه فلتات لسانه ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة ونحوها بل يحسن إلى عشيره غاية الإحسان ويحتمل غاية الاحتمال فكانت عشرته لهم احتمال أذاهم وجفوتهم جملة لا يعاقب أحدا منهم ولا يلومه ولا يباديه بما يكره من خالطه يقول أنا احب الناس إليه لما يرى من لطفه به وقربه منه وإقباله عليه واهتمامه بأمره وتضحيته له وبذل إحسانه إليه واحتمال جفوته فأي عشرة كانت أو تكون أكرم من هذه العشرة قال الحسين رضي الله عنه: سألت أبي عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في جلسائه فقال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عياب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيس منه راجيه، ولا يخيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وترك ما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدًا ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة من منطقه، ومسألته، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه، حتى يجوز، فيقطعه بنهي أو قيام».
وقوله: من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه: وصفه بصفتين خص الله بهما أهل الصدق والإخلاص: وهما الإجلال والمحبة، فكان قد ألقى عليه هيبة منه ومحبة، فكان كل من يراه يهابه ويجله، ويملأ قلبه تعظيمًا وإجلالًا وإن كان عدوًا له، فإذا خالطه وعاشره كان أحب إليه من كل مخلوق، فهو المجل المعظم المحبوب المكرم، وهذا كمال المحبة أن تقرن بالتعظيم والهيبة، فالمحبة بلا تعظيم ولا هيبة ناقصة، والهيبة والتعظيم من غير محبة ناقصة، كما تكون للغادر الظالم نقص أيضًا، والكمال: أن تجتمع المحبة والود، والتعظيم والإجلال، وهذا لا يوجد إلا إذا كان في المحبوب صفات الكمال التي يستحق أن يعظم لأجلها ويحب لأجلها.